حوار جرى مع احد الغواصين القطريين
إبراهيم بن علي المريخي
• الجلبوت و الشوعي و السمبوك و البوم والبقارة قوارب المهام الصعبة
• مقاييس خاصة للوقت في ثلاثينات القرن الماضي لمعرفة أوقات الصلاة
• الغزو الصناعي للأسواق في الخمسينات وراء اختفاء مهنة البحث عن اللؤلؤ
اجرى الحوار-عبدالقادر مضوي : لا زالت الأساطير والحكايات القديمة التي تناقلتها الأجيال حول الغوص والبحث عن اللؤلؤ.. الحرفة الوحيدة التي كانت سائدة قبل ثورة النفط محفوظة في صدور من عاشوا تلك الأيام.. كتابات كثيرة حفظت في بطون المخطوطات القطرية والتي تجسد حكاية الانسان القطري الذي ركب البحر دون ان يرهبه.. وشقت سفنه عباب مياه الخليج كسبا للرزق.
وكانت السواعد السمر قبل عشرات السنين تعمل وتعمل في ظروف صعبة لا تحتمل.. كانوا لا يعرفون الرسومات الهندسية والمعدات والتقنيات الحديثة وتبادل الطاقة بين الجو والبحر وسر الرياح الموسمية.. كانوا بفطرتهم التي جبلوا عليها قادرين علي التعامل مع مخاطر البحر ليعودوا في النهاية ظافرين الي أبنائهم الذين ينتظرونهم علي السيف .. وكان البحر ملاذهم الأول والأخير لا يعرفون غيره.. فلا مناص من البحر الذي يحيط بقطر من كل جانب.
مجلة الشرطة أجرت هذا التحقيق مع
السيد ابراهيم بن علي المريخي وهو واحد من هؤلاء الذين حفظوا
التراث القطري في صدورهم بعد ان قام بممارسة مهنة الغوص وهو في
عمر السابعة حيث فتح قلبه وأفاض بحديث الذكريات وقال:
في قديم الزمان وفي أيام الغوص كما يقولون كنا لا نعرف السفن أو القوارب او المراكب وانما نقول لهذه الوسائل خشب وهناك انواع كثيرة للخشب او القوارب التقليدية التي تعمل بالأشرعة فقط دون محركات كما هو الوضع في هذه الايام فهناك
الجلبوت و الشوعي و السمبوك و البوم و البقارة ويختلف كل قارب من هذه القوارب عن الأخريات وهي في النهاية حسب طلب النوخذة أو الطواش
والنوخذة هو ربان السفينة التي تمخر عباب البحر لأيام طويلة تمتد الي شهرين او اربعة شهور في بعض الاحيان للغوص
واستخراج اللؤلؤ من أعماق البحر متحدين
اسماك القرش واللخمة والقناديل وكان العمل يستمر طوال النهار لا تتخلله فترات راحة، وكنا نغوص بدون اسطوانات أوكسجين لفترات قصيرة حيث يصعد الغواص الي سطح الماء للتنفس والراحة ثم العود مرة اخري الي الأعماق وكانت ظروف العمل صعبة للغاية.
وكانت ايادينا تنزف دما من مشقة العمل المتمثل في جر الحبال او اقتلاع المحار من القوع قاع البحر واذكر في ذلك الوقت ان النواخذة اصحاب القوارب لا يحبون الغاصة الكسالي واذا شاهد احدهم غيصا.
متقاعسا يقوم بالصراخ عليه مذكرا بأن عمل الغاصة هو عمل رجال ومن أراد أن ينام فليام عند والدته، أما
الطواش فهو تاجر اللؤلؤ الذي يأتي الي النواخذة في عرض البحر وفي مناطق عملهم ليشتري منهم ما استخرجوه من اللؤلؤ النفيس.
ويضيف
الوالد إبراهيم قائلا: أدخل الآن التسعين من العمر وحياتي كلها داخل البحر، وبدأت الغوص وعمري سبع سنوات وكنت أخرج في رحلات الغوص مع والدي
علي بن ابراهيم بن ابراهيم المريخي، وكنا مجموعة من الصغار الذين يرافقون الغاصة في تلك الرحلات البحرية الشاقة ويسموننا
التبابين وتوكل الينا المهام الصغيرة التي تتوافق وأعمارنا فأذكر أننا كنا نوزع الخوص أو ما يعرف بطيوب الجبد وهي العيدان الصغيرة التي يستعملها الانسان بعد كل وجبة لينظف ما تبقي من طعام في أسنانه، وفي مقابل هذه الخدمة وخدمات أخري كنا نكافأ ب
السحتيتة وهي أصغر احجام اللؤلؤ نقوم بجمعها وبيعها للطواشين، وكان الكثير من النواخذة لا يرضون أن توزع مثل هذه الهبات الصغيرة للتبابة. وكنا نبيع تلك المقتنيات الثمينة بروبية أو روبيتين ولكنها تعني لنا الكثير كصبيان صغار.
وكانت صناعة الخشب أو القوارب والسفن التقليدية مزدهرة في ذلك الوقت ويقوم بها مهندسون تماما كمهندسي الأراضي هذه الايام، وكنت أراهم وأتابعهم بنفسي وخاصة في مدينة الخور مدينتي الجميلة التي أعشقها منذ نعومة أظفاري والي يومي هذا، فكان يأتي المهندس ويعاين المكان الذي سوف تصنع فيه السفينة أو القارب ويقيس بمعداته أحجاما وأطوالا خشبية معينة، ثم يستدعي رجاله ومساعديه لصنع القارب حسب طلب الزبائن وهم كثير في ذلك الوقت. وفي بداية عمله يضع الخشب فوق الرمال ويقوم بتثبيته حتي لا تتحرك الاخشاب وتفسد عليه مقاساته وبالتالي عمله، وأريد أن أوضح في هذا المجال بأن الجوالبيت لا يتم صنعها هنا في الدوحة وإنما تستورد من النيبار في ذلك الوقت ولكن بعد ان يفعل الزمن فيها أفعاله وتتآكل يقوم العمال بإعادة تأهيلها هنا لتعود قوية.
ويقوم
القلاف وهو النجار بمد الألواح الخشبية
و البيص وهو العمود الفقري للقارب وبطن القاعدة الذي يمثل أهم الأجزاء و
الماندات ويأتي ب
الفرمة وهي أداة كقلم الرصاص للمقاسات، أو الخشب كثيرة منها
الكروة وهو الجزء الذي تركب فيه المروحة بعكس المعني الآخر وهو ما يعني الأجرة و المالك وهو يصنع خلف السفينة وهو لوح ملتحم في القاعدة و السكان الدفة و الناره و السيخ و التريش و الزبدره .
وأشتهرت
قطر بصناعة
القلص وهو قارب خشبي تقليدي صغير لا يبحر في أعماق البحر وانما علي الشط فقط والأماكن القريبة من السيف وكانت القلاليص تقوم بأخذ الغاصة والصيادين من داخل البحر حيث تتوقف المراكب الكبيرة الجوالبيت أو قوارب الشوعي و القلص يشبه في شكله السمبوك أو الشوعي أو الجلبوت ويتم جره خلف السفن الكبيرة حيث يستخدم للمراسيل الصغيرة داخل البحر في بعض المرات أو في نقل الطواويش في السنيار من محمل الي محمل لشراء اللؤلؤ.
وتعتبر
صناعة السفن من الحرف القديمة في قطر وهناك ورشة لصناعة السفن للحفاظ علي هذا الموروث الأصيل.
الكثيرون ومنهم شخصي لا يعرفون الفرق بين كل ما ذكرت من أسماء محلية.. ما هي تلك الفروقات:
الفرق بين القوارب أو المراكب التقليدية المختلفة ليس كبيرا الي تلك الدرجة فمثلا سفينة جلبوت كبيرة تحمل 80 شخصا علي ظهرها وهي نسبيا كبيرة.. ويصل طولها نحو 50 قدما ولها مقدمة عمودية مستقيمة.
وهناك
البوم الذي يستعملونه كمركب للسفر وليس للغوص.. يتميز بتشابه مقدمته مع مؤخرته المدببتين، وهو من السفن الكبيرة التي تتراوح بين 74-400 طن، وطولها بين 50-120 قدما، بمعني أن هناك مراكب جوالبيت للغوص و بوم للسفر.
و
قلاليص للمشاوير الساحلية القصيرة، اضافة الي
(السمبوك) بقاعدته المنبسطة لتلائم المياه الضحلة و
(البتيل) بسعته الصغيرة وسرعته الكبيرة وله مقدمة مقوسة للامام وتنتشر في سواحل قطر.
وفي السنوات الأخيرة انتشرت قوارب
السمبوك والشوعي في السواحل القطرية واصبحت قوارب تقليدية تستخدم لصيد الاسماك الآن او المسابقات التراثية. وهناك ما يعرف ب
(الرجية) وهو قارب بدائي مصنوع من سيقان سعف النخيل مربوطة، باحكام بحبال مصنوعة من ليف النخيل او ليف جوز الهند في بعض الاحيان. وهناك
(البانوش) الذي يستخدمه الصيادون بالقرب من (السيف) وبعض الطواويش الصغار يستعملون قارب اسمه (الكيت) وهو عبارة عن ساق شجرة محفورة من النصف.
وماذا عن أماكن الغوص:
اماكن الغوص منتشرة في وسط بحر الخليج، اذكر منها
(بلهمبار) و(الريعة) و(صوفان) و(أم الشيف) و(ملجلج) كلها اماكن يكثر فيها اللؤلؤ.. ولا أذكر المدة التي تبعدها هذه الاماكن لاننا لم نكن نمتلك ساعات لقياس الوقت ولا نعرفها في ذلك الوقت بداية الثلاثينات وكنا نقيس الوقت بوضع كف اليد مضمومة تحت الذقن ومطالعة الشمس لمعرفة مواقيت الصلاة. واريد ان اوضح بأن جميع مراكب (الغوص) تتجمع في مكان واحد داخل البحر ويسمي مكان التقائها ب
(السنيار) حيث تلتقي المحامل فيها مفردها (محمل) وهي مسمي اخر للمراكب الشراعية القديمة.. اما بخصوص اشرعة تلك القوارب فتختلف وفقا لنوع القماش الذي تصنع منها ولكن اشهرها
(أبوزهيرة).
الطقوس كثيرة الخاص بالغوص وصناعة السفن ورفع الاشرعة والذهاب الي الغوص او العودة الي الأهل بعد فراق طويل، واذكر عندما كانت ترفع الاشرعة كان
(النهام) وهو المغني يقوم بالغناء لبث الحماس في قلوب الغاصة والدعاء إلي الله للتوفيق في الغوص، ولها الحانها الخاصة بضربات الدفوف، وهي ايام جميلة ومازلت اذكر جزءا من تلك الاغاني فهي باقية في القلب الي اخر العمر .
هل تستحضر أسماء بعض الطواويش او الغاصة والنواخذة؟
اشهر الطواشين كما قلت هو
الشيخ علي بن جاسم آل ثاني وشقيقه الشيخ سلطان بن جاسم ال ثاني حيث اتذكر في احدي رحلات الغوص، حيث انني كنت اراهم متجهين نحونا وكانت سفنهم محملة بالزاد والمؤن والابل والحلال وعند وصولهم يقوم بعض النواخذة برفع اعلام قطر اشارة الي قدوم الشيوخ حيث يتم استدعاء النواخذة والغاصة علي ظهور سفنهم ويتم تقديم لهم مأدبات غداء وبعد ذلك يقومون بشراء اللؤلؤ من النواخذة ثم بعد ذلك يتم
رفع (النوف) وهو عبارة عن قطعة قماش سوداء ترفع في اعلي منطقة في الجلبوت اشارة الي الطواويش الاخرين بانتهاء عملية بيع اللؤلؤ ومن الطواشين ايضا
عبدالله بن علي المسند وسلطان بن خلف المريخي والنوخذة
سلمان بن حمد الحسن والنوخذة
سالم بن درويش المريخي والنوخذة
احمد بن عيسي آل ابراهيم المهندي وهو كان معروفا وله خبرة طويلة ومحبوب وصاحب كلمة واذكر انه
رزق بدانه وباعها بأربعين الف روبية واشهر الغاصة
عيد بن ثاني المريخي وناصر بن سيف المريخي ووالدي علي بن ابراهيم المريخي وكلهم غاصة النواخذة سلمان بن حسن الحسن المهندي والنوخذة أحمد بن عيسي آل إبراهيم المهندي
مدللين وكلمة
غاصة مدللين تعني الغيص الذي يغوص قبل الغاصة ويخرج بعدهم ويأخذ نفساً واحداً قبل أن يغوص مرة أخري وعرفت هذا الاسم لأول مرة في عام 1932م عندما كنا في عرض البحر وكنت طفلاً صغيرا وذهبت مع والدي في رحلة غوص ودخل والدي الي القاع كما يقولون (صك القوع) وتأخر وكان من المفترض أن يكون هناك شخص متابع فوق السطح ليجر الحبل بعد انتهاء المهمة أو في الحالات الخطرة يسمي (سيب) وهو الرجل المكلف بسحب الغيص من قاع البحر ولكن السيب ترك الحبل وذهب يتمشي علي ظهر القارب وكاد قلبي أن ينفطر فوالدي رحمة الله عليه في القاع يكابد الشدائد ويواجه المخاطر وصاحبه يتمشي وهو يتغني بأغاني الغوص، وبينما أنا كذلك أبكي في دواخلي من المستقبل الذي يقابل والدي جاء النوخذة وصرخ في وجه ذلك الشخص، وانطلقت ضحكة طويلة من (السيب) ما زال صداها في أذني وأجاب النوخذة قائلاً (هذي غيص مدلل) إشارة الي أن أبي يتقن مهنته، وبعدها بقليل ذهب ذلك الشخص وأخرج والدي من (القوع).
وما المخاطر التي يواجهها الغيص..؟
المخاطر التي يواجهها الغاصة في البحر وكثير منهم لقي حتفه بعد حرب ضروس مع الأسماك الكبيرة في أعماق البحر.. وأذكر أن سمك
(اللخمة) وهو سمك كبير جدا يشبه الطبق الطائر كان يجثم علي الغيص ويمنع عنه التنفس ويظل جاثماً عليه حتي يلقي حتفه.. ولها ميزة عجيبة فبعد أن تقوم بقتل الغيص وتتأكد من ذلك تتركه في حاله وتذهب، وهناك أيضاً دجاجة البحر وكثيراً ما تقوم بلدغ الغيص أثناء التقاط المحار وكان علاجها قراءة القرآن والراحة وأشهر القارئين في هذه المواقف هو
علي الحرمي رحمه الله.
وأذكر عندما يصاب الغاصة في أعماق البحر بإغماء نتيجة للإرهاق يسارع بقية الغاصة لإخراجه وإجراء الإسعافات الأولية له وكانت إسعافات أولية بدائية ليست كما هو معروف الآن، ويقوم الغاصة بمص الماء المالح من بطن الغيص المغمي عليه من منطقة الصرة، ويقرأون في أذنه بعض الآيات القرآنية الكريمة.
الغوص وأيامه ذكريات جميلة ذهبت الي غير رجعة وانتهت تلك الفترة في الخمسينيات من القرن الماضي بعد أن غزا الأسواق اللؤلؤ الاصطناعي الذي يصنع في اليابان واندثرت أيضاً مهنة البحث عن اللؤلؤ والتي كانت رائجة في منطقة الخليج العربي.
والقوارب التقليدية ما زالت تمخر عباب البحر لصيد الأسماك فقط أو في المسابقات التراثية وقد سعدت جدا لمشاركة أبنائي في السباقات البحرية التي يتم تنظيمها بين فترة وأخري وقد فازوا بكثير من تلك المسابقات، والذي يثلج الصدر أنهم يحبون البحر ويعرفونه تماما وقد تمكن ابني سلطان من صيد سمكة من نوع الصافي مكتوب عليها لفظ الجلالة (الله) في منطقة الفركية شرق الخور علي البحر من قبل من مكان شجر القرم ونشر ذلك في الصحف اليومية وبعض الصحف الأخري في الهند وما زال يحتفظ بتلك السمكة في وعاء خاص بعد أن أضاف محلولاً كيميائياً لحفظها.
ويضم متحف قطر الوطني العديد من المراكب الخشبية التقليدية القديمة بعد ان دخلت الي الأسواق تلك (اللنشات السريعة) بمحركاتها المتطورة وجسمها المصنوع من الفايبر جلاس وليس من الخشب.. ويفخر القطريون بامتلاك سفينة (جلبوت) عمرها 120 سنة وأسموها فتح الخير. وهناك إدارة للسفن الخشبية تابعة للمكتب الهندسي في الديوان الأميري لتقديم الدعم اللازم والتحفيز المناسب للمحافظة علي هذا التراث الجميل.